من أسباب النصر في غزوة بدر الكبرى:
لا بد أن نعيَ وندركَ أن النصرالحقيقي من الله، وكل ما دونه ستار لقدرة الله، وهذا ما بيَّنته غزوة بدر بجلاء ووضوح، فعندما حقَّق المسلمون في أنفسهم موجباتِ النصر تحقَّق النصر، بل وأكثر من ذلك، لقد كفاهم الله مؤنته ودافع عنهم ومدَّهم بمدد من عنده، بل وحارب عنهم، وهذا ما سنحاول الحديث عنه هنا:
1- الاستعانة بالله ونزول الملائكة "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ* وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ" (الأنفال: 9، 10) روى أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وابن جرير وغيرهم عن عبد الله بن عباس- رضي الله عنهما- قال: حدثني عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: لما كان يوم بدر نظر النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلاً، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألفٌ وزيادةٌ، فاستقبل نبي الله القبلة ثم مدَّ يده وجعل يهتف بربه: "اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" فما زال يهتف بربه مادًّا يديه مستقبلاً القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر- رضي الله عنه- فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربَّك؛ فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله تعالى: "إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ" (الأنفال: 10) فلما كان يومئذ والتقَوا هزم الله المشركين، فقُتل منهم سبعون رجلاً وأُسر سبعون.
2- الملائكة للبشرى والطمأنينة: "وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ" (آل عمران: 126) يقول ابن جرير الطبري: "يقول تعالى ذكره: لم يجعل الله إرداف الملائكة بعضها بعضًا، وتتابعها بالمسير إليكم أيها المؤمنون مدَدًا لكم إلا بشرى لكم، أي بشارةً لكم تبشركم بنصر الله إياكم على أعدائكم "وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ" يقول: ولتسكن قلوبكم بمجيئها إليكم وتوقن بنصر الله لكم، وما النصر إلا من عند الله. يقول: وما تنصرون على عدوكم أيها المؤمنون إلا أن ينصركم الله عليهم، لا بشدة بأسكم وقواكم، بل بنصر الله لكم؛ لأن ذلك بيده وإليه، ينصر من يشاء من خلقه".
فالملائكة إذن لا تحقق النصر، وقوة بأس المؤمنين لا تحقق النصر؛ بل المؤمنون والملائكة ستار لقَدَر الله وهم جنود الله تعالى، ينصر بهم وبغيرهم؛ لأن النصر بيده سبحانه، وهذا ليَتم التجردُ الكاملُ من عالم الأسباب، وإعادة الأمر كله لله.
3- النعاس من جنود الله :"إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ" (الأنفال: من الآية 11) عن علي- رضي الله عنه- قال: ما كان فينا فارسٌ يوم بدر غير المقداد على فرس أبلق، ولقد رأيتنا وما فينا متيقِّظٌ إلا رسولُ الله- صلى الله عليه وسلم- تحت شجرة، يصلي ويبكي حتى أصبح، ذكره البيهقي والماوردي، وفي امتنان الله تعالى عليهم بالنوم في هذه الليلة وجهان:
أحدهما: أنه قوَّاهم بالاستراحة على القتال من الغد.
الثاني: أنه أمنهم بزوال الرعب من قلوبهم، كما يقال: "الأمن منيم والخوف مسهر".
يقول الشهيد سيد قطب "أما قصة النعاس الذي غشي المسلمين قبل المعركة فهي قصة حالة نفسية عجيبة, لا تكون إلا بأمر الله وقدره وتدبيره.. لقد فزع المسلمون وهم يرون أنفسهم قلةً في مواجهة خطر لم يحسبوا حسابه ولم يتخذوا له عدته، فإذا النعاس يغشاهم، ثم يصحون منه والسكينة تغمر نفوسهم، والطمأنينة تفيض على قلوبهم، وهكذا كان يوم أحد.. تكرر الفزع, وتكرر النعاس, وتكررت الطمأنينة، ولقد كنت أمرُّ على هذه الآيات, وأقرأ أخبار هذا النعاس, فأُدركه كحادث وقع, يعلم الله سرَّه, ويحكي لنا خبره، ثم إذا بي أقع في شدة, وتمر عليَّ لحظاتٌ من الضيق المكتوم, والتوجس القلق, في ساعة غروب، ثم تدركني سِنَةٌ من النوم لا تتعدَّى بضع دقائق، وأصبح إنسانًا جديدًا غير الذي كان.. ساكن النفس.. مطمئن القلب.. مستغرقًا في الطمأنينة الواثقة العميقة، كيف تم هذا? كيف وقع هذا التحول المفاجئ? لست أدري!! ولكني بعدها أدرك قصة بدر وأحد.. أدركها في هذه المرة بكياني كله لا بعقلي، وأستشعرها حيةً في حسي لا مجرد تصور، وأرى فيها يدَ الله وهي تعمل عملَها الخفيَّ المباشر، ويطمئن قلبي".
4- الماء من جنود الله وله وظائف : "إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ" ظاهر القرآن يدل على أن النعاس كان قبل المطر، وقال ابن أبي نجيح: كان المطر قبل النعاس، وحكى الزجَّاج: أن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى ماء بدر فنزلوا عليه وبقي المؤمنون لا ماءَ لهم، فوجست نفوسهم وعطشوا وأجنبوا وصلوا كذلك، فقال: بعضهم في نفوسهم بإلقاء الشيطان إليهم: نزعم أنا أولياء الله وفينا رسوله وحالنا هذه والمشركون على الماء؟! فأنزل الله المطر ليلة بدر السابع عشر من رمضان حتى سالت الأودية؛ فشربوا وتطهَّروا وسقوا الظهر، وتلبَّدت السبخة التي كانت بينهم وبين المشركين؛ حتى ثبتت فيه أقدام المسلمين وقت القتال، وبذلك يتم المزج بين المدَد الروحي والمدَد المادي، فتسكن القلوب بوجود الماء, وتطمئن الأرواح بالطهارة، وتثبت الأقدام بثبات الأرض وتماسك الرمال.
5- الملائكة بحاجة إلى معية الله سبحانه : ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ﴾ وهذه الآية توضِّح أن الملائكة بدون عون الله تعالى عاجزون عن تحقيق أي نصر، حتى وهم يثبِّتون المؤمنين ويقاتلون معهم، لا بد لهم من معيَّة الله سبحانه ليلقي الرعب في قلوب الكافرين.
6-الله تعالى يدير المعركة : "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ* ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ"(الأنفال: 12: 14) فقوله: "إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ" تبين أن المعركة جرت على عين الله سبحانه، وأنه كان يوجِّه الملائكة بتوجيه المؤمنين لما يجب عليهم فعله ليحققوا النصر في أرض المعركة.. يقول: قوُّوا عزمهم، وصحِّحوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين، وقيل إن الملك يأتي الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم- يعني المشركين- يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفنَّ، فيحدث المسلمون بعضهم بعضًا بذلك فتقوى أنفسهم، قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته.
"سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ" يقول تعالى: سأُرعب قلوب الذين كفروا بي أيها المؤمنون منكم وأملأُها فزعًا حتى ينهزموا عنكم، فاضربوا فوق الأعناق.. يقول الشهيد سيد قطب- يرحمه الله-: "إنها المعركة كلها، تدار بأمر الله ومشيئته, وتدبيره وقدره; وتسير بجند الله وتوجيهه.. وهي شاخصةٌ بحركاتها وخطراتها، من خلال العبارة القرآنية المصوّرة المتحركة المحيية للمشهد الذي كان, كأنه يكون الآن!!".
7- المؤمنون من جند الله : "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ* وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ" (الأنفال: 15، 16) وهنا توضيح لحقيقة مهمة، وهي أن المؤمنين مجرد جند من جنود الله لتحقيق النصروليسوا صانعيه، فهم أداة ييسرها الله لتحقيق النصر، وتوضح الآية أنه لا مجال لفرار المؤمنين من الزحف، فقد أمر الله عز وجل في هذه الآية ألا يولِّيَ المؤمنون أمام الكفار، وقال الجمهور من العلماء إن حكم الآية باقٍ إلى يوم القيامة، وليس في الآية نسخ، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي وأكثر العلماء، وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات.. وفيه: والتولي يوم الزحف".
8-الحصى من جند الله: "فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ* ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ" (الأنفال: 17، 18).. روي أن أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لما صدروا عن بدر ذكر كل واحد منهم ما فعل: قتلت كذا، فعلت كذا؛ فجاء من ذلك تفاخر ونحو ذلك، فنزلت الآية إعلامًا بأن الله تعالى هو المميت والمقدِّر لجميع الأشياء، فقيل: المعنى لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم بسوقهم إليكم حتى أمكنكم منهم، وقيل: ولكن الله قتلهم بالملائكة الذين أمدَّكم بهم، (تفسير القرطبي ج4،7 ص384).