السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
تاريخ المسـلمين.. هل يعوق نهضتهم؟!
بقلم: عبدالمجيد صبح
الراغبون عن الإسلام، وشانئو يقظة المسلمين، يدعون إلى التخلي عن تاريخ المسلمين، ويشككون في صحته، وجدوى الدعوة إلى إحياء ماضيهم!
وهم في دعوتهم يُلبسونها لَبُوس العلم والمنهج العلمي، ليَلْبسوا على المسلمين دينهم، وينطلي الزور على شبابهم، فما الحق في هذه الدعوة وما حقيقة علاقة الأمة بتاريخها؟
ما التاريخ؟ : هو، من حيث الظاهر، حكاية أحوال الأمم السالفة، لكنه ـ من حيث جوهره ـ تحقيق رواية الحدث، وتوثيق الواقع، ثم تحليل الحدث الواقع، وتمييز عناصره، ثم تعليل ذلك الواقع، والتعرف على أسبابه وبواعثه ونتائجه، ثم استنباط قانونه العام، الذي يكون بمثابة القاعدة المجردة، يهتدي بها الباحث إلى الحكم على وقائع الدهور، بهدف الأخذ بأسباب الفلاح، واجتناب دواعي الخسران، ومن هنا قيل في تعريف التاريخ: إنه دراسة الماضي، لفهم الحاضر، وبناء المستقبل، إذن ـ بهذا البيان العلمي ـ تكون الدعوة إلى اجتثاث تاريخنا دعوة للهدم لا للبناء، ولا تستند إلى علم صحيح، ولا إلى منهج من مناهج البحث العلمي.
التاريخ ضرورة لكل أمة، لأنه مرآتها التي تتبين فيها معالم نهوضها، وتتجلى فيه شخصيتها المتميزة، وعبقريتها الخاصة، ورسالتها الحضارية، ثم هو مظهر إحساس الأمة بنفسها، وارتباط أجيالها.
فاهتمام الأمة بتاريخها ليس ترفاً، ولا عملاً من المحسنات وخطوط التزيّن، ولا عملاً من التزيّد الذي يمكن الاستغناء عنه، ولا هو نكسة من العيش في الماضي المقطوع عن الحاضر والمستقبل، ولنا مثلٌ مضى من الغرب، عندما أراد أن يخرج من ظلامه المركوم، في نهاية عصوره الوسطى، فقد نزع، بنهضته إلى أصوله الإغريقية والرومانية، ولا سيما الآداب والفنون!.
أما المؤرخون العرب فقد كان لهم حس تاريخي فريد جعلهم قمة فريدة في علم التاريخ من حيث المقدار، والموضوع، والمنهج، والباعث النفسي، وتفسير حركة التاريخ، ثم من حيث الغاية من العناية به.
أما من حيث المقدار، فقد كان العرب أكثر أمم الأرض إنتاجاً في هذا العلم، وقد شهد بهذا "مارجيليوث" في كتابه "دراسات عن المؤرخين العرب" فقال: العرب أمة اشتهرت بالتاريخ، وكذلك ـ بالتبع ـ كثرة عدد مؤرخيها.
أما الموضوع، فقد أرَّخ المسلمون للإنسان، وهو موضوع التاريخ الأول، وأرخوا لكل ما يتصل به من الأحوال والزمان والمكان، والعادات والتقاليد، وللدول والجماعات، بل والنبات والحيوان، وأرَّخوا لأفكاره، ودياناته، وفي طبقات العلماء، وفي الأقاليم، وفي المدن، كأصفهان، وبغداد، وحسبك أن الحافظ ابن عساكر كتب تاريخ دمشق في مائة مجلد!!
شهادة المستشرقين : أما المنهج فقد سبقوا جميع أمم الأرض في وضع مبادئ التحقيق والتوثيق، والنقد والتمحيص، حتى أصبحت هذه المبادئ علوماً مستقلة، مثل علوم الرواية، والدراية، والجرح، والتعديل، ومعاجم الرواة من الرجال والنساء على سواء، وفي سبيل التوثيق ابتكروا ضبط الحدث بالسنة والشهر، واليوم أحياناً، ولم يُعرف هذا في الغرب قبل عام 1597م، على ما ذكرت "الموسوعة العربية" عن المؤرخ "باكل"، وقال "مارجليوث": وصل مؤرخو العرب مرتبة سامية من التوثيق، جعلت كتبهم ذات نفع عظيم للبشرية!
هذه الشهادة من المستشرقين كانت بعد نهضتهم، ووصولهم إلى مناهج البحث الحديث، ومعرفتهم بمبادئ النقد، والتوسع في الحفريات واستكشاف الآثار، فكيف يتسنى لمثل الكاتب "شوقي جلال" في مجلة العربي عدد (406-148) أن يصوِّر تاريخ المسلمين على أنه "رواية" لم تمحص ولم تخضع لقواعد النقد، فلا تثبت على مقاييس العلم الحديث"، فيالله للعجب العجيب، وللغفلات تعرض للأريب! لقد ساعد اتصال الغربيين بالمسلمين، عن ستة سبل ـ كما جاء في "قصة الحضارة": التجارة، وترجمة كتب المسلمين، وإيفاد طلبة الغرب إلى جامعات المسلمين، ووفود علماء الغرب إليهم، واختلاط الغربيين بهم في الشام وصقلية والأندلس، ثم التصادم بينهم في الحروب الصليبية ـ ساعدهم ذلك على تمحيص تاريخهم، ونقد كتبهم المقدسة، كما اكتشفوا به أن "هبة قسطنطين" التي تزعم أنه حينما غادر روما نصَّب البابا خليفة له، وأعطاه حق إدارة الأراضي المحيطة بروما ـ اكتشفوا تزويرها في القرن الخامس عشر، عن طريق أن لغتها لايمكن أن تكون لغة القرن الرابع "كما جاء في تشكيل العقل الحديث ص42 من سلسلة عالم المعرفة".
لقد تعلَّم الغربيون، من المسلمين علم أصول الحديث، كما تعلموا مناهج النقد التاريخي من علماء المسلمين ومن "مقدمة" ابن خلدون، فاستقام لهم تاريخهم وحياتهم، أفبعد هذا يقول قائل منّـا، واسمه من أسمائنا ـ دعوا تاريخكم؟!
"القلق النبيل" : أما باعث المسلمين على العلم والعناية به، والتاريخ وتوثيقه فهو ذاك القلق النبيل الذي غرسه فيهم الإسلام بفرضه طلب العلم، ونفيه السرية بين من علم ومن جهل، ولم يقلقوا لطلب مال ولا سلطان، إنما قلقوا طلباً للعلم، فرحلوا في طلبه إلى أقطار الأرض. إن العالم قلق، وإن الجاهل مطمئن، وقد أوجد الإسلام، في المسلمين عامة، قلق العلم النبيل، بينما أمم الأرض في غفلاتهم سامدون.
أما تفسير التاريخ: فقد ابتكر علماء المسلمين تفسيراً عجباً، وهُدوا إلى تفسير لحركة التاريخ تؤيده الآثار التاريخية، من أقدم آثاره إلى أحدثها، ذاك: أن دافع حركة التاريخ هو: الإيمان بالله خالق هذا الوجود، وأن ارتباط البشرية بهذا المبدأ، قرباً أو بعداً هو أساس تطبيق قانون التاريخ الذي سماه الله في القرآن "سنة الله" وبيَّن أنه لا تبديل لها ولا تحويل، فليس صراع الطبقات هو محرك التاريخ، وليس هو تفسير التاريخ، كما زعم الماركسيون، وقد نقض زعمهم الواقع الذي نشاهده، وأخذت شعوب الإلحاد الماركسي تفيء إلى ربها، مما يشهد لصحة التفسير الإسلامي للتاريخ، فهل يُراد منا أن ندع ما ثبتت صحته ونأخذ ما ثبت بطلانه؟"
أما الغاية التي من أجلها عني علماء المسلمين بالتاريخ وما يتصل به، فقد كان، كذلك، عجباً من عجائب الدهور، أثبت به هؤلاء العلماء نظرية وحدة الإنسانية، ووحدة الأمة الإسلامية، أثبتوا وحدة الإنسانية بما سجلوا من تاريخ الإنسان، وبما طوفوا بلاده، ودونوا دياناته، وأفكاره، وفلسفاته، وعاداته وتقاليده، هذا في وقت تمايز الناس فيه بالجنس، وبالدين، وبالأرض، وأقاموا بهذه الوحدة الإنسانية روابط بشرية، تعارف فيها الناس، وتعاونوا على الخير مع اختلاف ألوانهم.
منقول للفائدة و الله المستعان